أنا وغسان والشهيد
كان لفكرة لقائه المجنونة طعم رائع.. طعم يفيض بالحبور.. مشوب بمرارة الذكريات وغربة المنفى وبرودة الموت.
كان أخبرني في زيارته أن أكبر لعنة تصيب رجلا أن يفقد الحب والوطن.. وكان يسألني عن الوطن؛ ذلك الذي حبّر قلمه كثيرا من أجله وأدمى عمره في سبيله وتناثرت أشلاؤه بين كليهما.
كنت أجبته أنه في عالم أفضل بكثير، عالم لا يعرف الغموض؛ لا يقدس الخيانة؛ إنه عالم الشهيد الذي ارتحل إليه.. عالم الموت الذي لا يموت فعلا فيه أحد.
'إننا نعيش في عالم الكذب'.. هذا ما قلته له؛ 'وأنتم في عالم اليقين.. نحن بين الشياطين وأنتم تحرسكم الملائكة'.. 'نحن نعشق الرحيل وأنتم اتخذتم منزلا أبديا.. نحن لا نرى بوضوح وأنتم ترون كل شيء'.
تنهدت ثم أكملت 'ترون كيف أصبح الوطن حقيبة في يد مسافر؛ كلمة في فم فاجر.. عرسا في قلب المقابر.. أنتم ترون كيف كثر باعته في سوق الخيانة؛ كيف فاضت أرضه بماء المقابر وبرصاصات وقنابل ؛ كيف أن الطفل فيه يولد مسافر.. مجرد عابر'. 'نحن باعنا من بايعنا..' هكذا أنهيت حديثي.. كان غسان يعاني من ابر 'الأنسولين' التي يحقنها باستمرار في دمه.. وغسان كان قد تأهب للرحيل.
كنت أردت إخباره عن كل الذين ارتحلوا؛ كل الأطفال الذين يتموا؛ كل الحجارة التي دمرت؛ كل الأشجار التي اقتلعت؛ كل القلوب التي أُدميت، كل الصبايا التي شوهت والشباب التي اعتقلت؛ كنت أردت إخباره عن الوطن الذي لم أعرفه.. الوطن الذي سرقوه؛ عن من سرقوه وعن من خانوه؛ عن من باعوه.. وعن من أغلقوه.
لكن غسان زائر لا يطيل بقاءه؛ لا يُكثر من سؤاله.. فقلبه الذي شطرته قنبلة أرق من أن يسمع جواب كل هذه الأسئلة التي لم يطرحها..
غسان كان زائر الليل.. ليل الوحدة والغربة؛ الظلم والتقهقر.. ليل الأحلام.. كنت أعلم أن زيارته الخاطفة ستنتهي مع اقتراب خيوط الفجر ثم ما تلبث روحه تستعد لزيارة أخرى في بقعة أخرى.
والآن يا غسان؛ أهناك كلمة أكثر من اللعنة لتلعن رجالنا ونساؤنا؟.. أولئك الذين فقدوا الحب؛ هجروا من الوطن وابتلوا بالخيانة.
بقلم راما صافي
عمان الأردن