منذ قطرة الدم الأولى..قرّرت أن أحترف الخرس، فالحبر يُودْ العاجزين، الذي لن يسعف جريحاً ولن يكحّل عين شهيد..
منذ قطرة الدم الأولى قرّرت أن أترك زاويتي وأعتكف داخل جلدي المحترق.. فكل أوراق الجرائد التي تنسخ أخبار الموتى لن تدير مخابز الأحياء، ولن تنضج رغيفا..ولن تكفّن رُلاّت الثرثرة الكثيرة الكثيرة جثمان طفلة بحجم برعم الورد..أو توقف نزيف...
**
كنت سأحترف الخرس مدى الحياة، لكن ثمة آه بحجم الرصاصة ثقبت قلبي وأنطقتني.. عندما شاهدت هيا ولمى الطفلتين الشقيقتين الشهيدتين الشرنقتين..الممدّتين كإصبعي النصر على حمّالة الموت... و خصل الشعّر المسرّح آخر الليل، وكنزتي الصوف التي دفّئتا الجسدين النحيلين ذات غروب، وقد بلّلتا بالدم المخثّر ..وصوت الضحك المدفون تحت أنقاض البيت..والوجه الناعم كورق الورد عندما هشّمه دقيق الاسمنت..آه يا لمى آه يا هيا، جرحكما لم يزل يُنزفني؟؟...
**
مثل المشي على أعناق العشب اليابس تكسّر ضعفي،عندما شاهدت الشقيقتين الشهيدتين الشرنقتين الممدتين كإصبعي النصر في كفّ الموت..و دمعة لمعت على خدّي تشبه مرآة حزني .. سألتني : ترى كيف رحلتا متلاصقتين، كما في فراش الطفولة؟.. كم مرّة تبادلتا محابس الشّعر وأسماء الدمّى، كم مرّة مسحتا الدمع بأكمامهما، كم مرة تبادلتا الأنفاس ذات حلم، والوجع ذات ألم، والجوع ذات حصار، والبكاء ذات وحدة..
ترى كيف تقاسَمَتا الموت مناصفة ورضيَتا؟.. لمن تركَتا علبة الألوان،وكفيهما المرسومين على الدفتر القديم؟ وخربشات الحائط، ورسم العرائس على باب الدار؟.. هل أكملتا حفظ أنشودة الأم والوطن؟..أين أمشاطهما وأساورهما المستعارة؟ ..أين عقود الخرز الرخيص، والورد المزروع على ذاك القميص؟..اين مناقيش الزعتر وعبارة عندما أكبر ؟..اين الدروس والحروف أين البومات الصور؟..أين هدايا الحجاج الذين لم يحجّوا؟ أين ذكريات الولادة..وشهادات الميلاد.. أين المصروف اليومي، و الحصّالة التي نثرت تحت الدمار...أين الشقاوة، اين الحلاوة: أين التباهي ب: أمي تحبّني أكثر !!..
**
عندما شاهدت هيا ولمى الشقيقتين الشهيدتين الشرنقتين الممدّتين كإصبعين في كف الموت...رفعت يدي المضرّجتين بالحبر ودعوت: يا رب امسح من قاموسنا الموت؟.
**
يا رب اجعل هيا ولمى آخر نقطتي دم على دفتر الرسم..
منقول